المدهش سمير بية /تونس
الشجرة "كائن لا تحتمل خفته"*
كنت كائنا مثقلا بكل ظلاله أمام مرآة العالم
يستيقظ من ميتته الصغيرة
ليعبر نافذة كانت فتحة مثقوبة في السماء نحو رجفة أولى
كنت "طفلة في سلة مطلية بالقطران "*تخوض النهر
تطعم السميكات براءتها
كنت هالة من النور تضمد موتها في وجوه الشعراء
ترقص على ظهر العالم مغمضة العينين
كنت كؤوسا تفيض بالريح
تسكب أقدامها في فم التراب
كنت حجرا يقرأ سيرة الغبار على مسامع الفصول
يحرس برودة الماء في دمه
كان رأسي حفلة تنكرية للحساسين
كانت عيناي المشتعلتان سرير حب لخفاشين عاشقين
كان فمي بخضرته الداكنة ندبة في صفحة الضوء
كان لساني اللامع جدولا متواطئا مع العشب
كانت أسناني المرصوفة صخورا تهدهد النسمات
كان عنقي المغلف بالرغبة شهوة الحطاب الجائع
كان نهداي المكللان بالطفولة دهشة الغيم في عيني نورس
كان خصري النرجسي هلالا في مناقير اللقالق
كانت ساقاي الطينيتان بحيرات فضية تنسكب من عيون البجع
أنا المنذورة للمدفأة المهجورة
أشكو ألمي الشهي للنار العاطلة عن العمل
أسد جرحي البهي بالرماد المتقاعد
أبصق أسراري الندية في وجه الباب المثقوب
أدحرج حلمي الأعرج مربعات سوداء في أكف النافذة المجعدة
أنا جراء تئن في رأس سيرة ذاتية للشتاء
أرضع البرد من أيامه الرمادية
أقشر حزن الثلج بأظفاري
أحشد أصابع الهواء في موتاتي الصغيرة
أبذل جسدي لنهر متغير الأمواج
أحفر في ضفاف الوجع الخصيب جرحا بدم عتيق
فيركض الشعراء في جنازتي بنصف ذاكرة
يشعلون المجازات في ذراعي بجنون نحاسي
يضحكون من أجل لقطة شعرية في عين الكاميرا
يوارون جثتي ظلال الفصول بمعاول التخييل
يرقصون على دموع المدفأة بأحذية عسكرية
لا يربون طفولة الأعشاش في قصائدهم
لا ينتبهون لشمس تحت لساني في عزلته
لا يلتفتون نحو النمل المنهك يحمل القمح إلى قدمي
لا يحزنون من أجل سناجب تخبئ تحت فرائها موتا خاليا من البندق
لا يراقبون يرقة تحت إبطي تخرج شفافة من ميتتها الصغيرة
لا يهتمون لقيلولة الحلازين في ظلي
لا يحفلون بعناكب تنسج ظلالا لهواجسي
قبل أن أمرغ أنفي في وجوههم
قبل أن يصير دمي الأخضر مسالك موحلة في ظهر العالم
سأعبر الظلال و العتمة سباحة نحو رجفة الحياة
و سباحة سأهب وجهي للسميكات البريئة
سأكسر كؤوس الريح جيدا
و جيدا سأسد حنجرة التراب
سأمحو سيرة الغبار عن جبين الفصول بحذر
بحذر سأدفئ الماء في دمي
بتؤدة سأخفي أقنعة الحساسين في شوارع قلبي الخلفية
سأأرجح من أهدابي حبا أعمى بين خفاشين بتؤدة
برفق سأمضغ الضوء المعلق على حبل عزلتي
سألعق بصمات العشب على لسان الجدول الأخضر برفق
بمتعة سأرصف أسنان النسمات في كهف الهدهدة
سأتابع سيلان عنقي على شهوة الفأس بمتعة
بلهفة سأعصر نهداي فيغسل الغيم طفولة النوارس بالدهشة
سأفرد خصري بحجم البحيرات بلهفة فيفوح النرجسي من رؤوس اللقالق
سأعجن الطين بدموع البجع بعناية
بعناية سأسكب ساقي فضة
ها هنا في النسغ السائل بالرغبة أسمع صوت المدفأة يضج بالأعشاش
أشاهد ألمي يشحن ذاكرة النار بالشهقات
أنصت لجرحي يلاعب الرماد الورق فوق طاولة من صلبي
أراقب الباب يركل أسراري بساقه الخشبية
و النافذة تصفع حلمي الأسود بأكف مربعة
و الشتاء ينبح على سيرته الذاتية تطارد جرائي
البرد يدر في أيامي العطش حليبا رماديا
الثلج يمد أظفاره تحت جلد حزني
الهواء يداعب موتاتي الصغيرة بأصابعه
الوجع يعتق دمي بطين الضفاف
يا كم كانت جنازتي شاعرية وهي تركض بالشعراء إلى قصائدهم
يا كم كان قبري مجنونا و هو يضم ذراعي المشتعلتين بالمجاز
يا كم كانت جثتي مضحكة أمام الكاميرا و هي تواري الفصول الظلال
يا كم كان رقص المدفأة مبكيا و هي تعانق النار
يا كم كانت القصائد طفولية و هي تحضن الأعشاش
يا كم كان لساني مشمسا و هو يسقط من عزلتي الصفراء
يا كم كانت قدماي لامعتين بالنمل و هما تجوسان قرى القمح
يا كم كان موت البندق رائعا تحت فراء سناجبي و هو يلمع بالدفء
يا كم كانت يرقتي مشعة في موتتها الصغيرة و هي تلوك الألوان
يا كم كانت أوراقي فرحة بالألوان وهي تحدث الفراشات
يا كم كان ظلي لزجا بنوم الحلازين و هو يتدثر سبات الوقت
يا كم كانت هواجسي أوهن من ظلال العناكب و هي تتسلق الشمس
يا كم صرت كائنا لا تحتمل خفته و أنا أسقط في النهر من سلة القطران
يا كم صرت هالة ضوئية و أنا أبوح بالنذر للمدفأة
يا كم صرت نسغ حياة و أنا أتوغل
في قلب العالم
في قلوب الشعراء
و"أستيقظ من ميتتي الصغيرة و النافذة فتحة مثقوبة في السماء"*
فأحطم المرآة و أحلق
*كائن لا تحتمل خفته =عنوان رواية لميلان كونديرا
*طفلة في سلة مطلية بالقطران =جملة وردت في نفس الرواية
* و أستيقظ من ميتتي الصغيرة و النافذة فتحة مثقوبة في السماء= الجملة وردت في رواية "رامةوالتنين"لادوارد الخراط (عندما استيقظ من ميتته الصغيرة كانت النافذة فتحة مثقوبة في السماء )