العنوان يتمثل في تساؤل لا يلبث أن يطرح نفسه مرارا وتكرارا حين نلمس الفارق مع مجتمعات اخرى تجاوزتنا بمراحل تجربة وحضارة وخبرة.
وإن كان الامر هنا ليس الغرض منه جلدا للذات بقدر ما انه هو محاولة لإجابة سؤال شهير ظل معلقا منذ عقود: لماذا تقدم الآخرون، وتأخرنا نحن؟
بعبارة اكثر وضوحا: لماذا تفوق الغرب وتخلف العرب؟
الحقيقة مفكرون عرب حاولوا بتجرد كشف الخلل ومحاولة طرح الحلول لمعالجته لا سيما من خلال مشاريع فكرية لها طابع المنظومة الواحدة او الفكرة المتسلسلة.
كانوا على قناعة أنهم بذلك السلوك يكرسون دورهم التنويري والتثقيفي في مجتمعاتهم، لاسيما ان ما يجمعهم هو محصولهم الموسوعي والاهتمام بالتراث من منظور علمي ومعرفي، والرؤية النقدية للحداثة. ولذا تجد ان كل مشروع فكري بغض النظر عن اكتماله من عدمه إنما هدفه السعي للارتقاء بالمجتمع علما ووعيا وقيمة. ولذا من باب الانصاف يعترف الكثيرون بأنه في النصف الأول من القرن العشرين جاءت موسوعة احمد أمين الثلاثية "فجر الإسلام، ضحى الإسلام، ظهر الإسلام" بأجزائها المتعددة لتدشن مشروعا فكريا لافتا آنذاك في استيعاب التراث، منطلقا من الجذور الإسلامية، ولا زال المهتمون يعودون الى تلك الموسوعة حتى يومنا هذا.
ولذا ومن منطلق هذا التحليل، طرح البارزون من مفكري العرب في العصر الحديث المعاصر عدة مشاريع فكرية للإصلاح والتغيير وتعنى بالإجابة عن ذلك السؤال القديم - الجديد. وجالت تلك المشاريع الفكرية كما يعتقد البعض بين نماذج ثلاثة:
الأول تبناه عبدالله العروي وهشام جعيط وهشام شرابي وغيرهم. ويرتكز هذا المشروع على فكرة رئيسية تتمثل في استيعاب الفارق المهول بين العرب والغرب من حيث المسافة التاريخية وكيفية استيعابها، وشددوا بأن خارطة الطريق لتلك الرؤية وردم الهوة الشاسعة هو انه لابد ان تكون متزامنة بتنوير فكري وتطوير تقني وإصلاح للخطاب الديني ليكون متسقا مع التحولات المجتمعية، مدللين بذلك على مسار النهضة الاوروبية التي استطاعت ان تنتقل للديمقراطية بالتمرد على عقلية القرون الوسطى آنذاك.
كما ان اصحاب هذا التوجه لديهم اعتقاد في أن القومية آنذاك افضت الى تجارب سياسية فاشلة وهشة ناهيك عن ضعف النخبة المثقفة وهشاشة مؤسسات المجتمع المدني التي لم تمتلك الشروط الموضوعية لنجاحها وبالتالي لم تكن قادرة على صناعة التحول والتغيير ما دفع المجتمعات لتكون رهينة للعصبوية بكافة اشكالها وتجلياتها، بدليل تحكمها في هويتها. ولعل المشهد اليوم في عالمنا العربي يعكس مصداقية هذه المقولة.
في حين اتجه المثال الثاني وهم من عاشقي قراءة التراث وتحليله ويتزعمه محمد عابد الجابري وحسن مروة ومحمد أركون وحسن حنفي، حيث يعتقد هؤلاء المفكرون ان المعضلة تتعلق بنقد العقل ولا شيء غير العقل على اعتبار انه منتج هذه الثقافة التي هي وفق رؤيتهم المهيمنة على وعي افراد المجتمع.
كانت جهودهم اقل ما يقال عنها بأنها جادة نزعت إلى إعادة قراءة التراث من خلال استخدام مناهج علمية حديثة، سعت إلى تحرير العقل العربي من كل القيود التي تكبله.
طبعا هم يركزون على تغيير التركيبة الثقافية والارتقاء بها وعياً وفكراً وثقافة، وهو تصور نخبوي بلا شك إلا انه يمس الادراك وجذر المشكلة. ولذا عندما طرح المفكر الجابري قضية القطعية المعرفية بين المشرق والمغرب، فإنما كان يسعى لطرح تصور لمشروع نهضوي ديمقراطي.
كان يرى أن العقل العربي ما هو إلا " جملة من المفاهيم والفعاليات الذهنية التي تحكم، بهذه الدرجة أو تلك من القوة والصرامة، رؤية الإنسان العربي إلى الأشياء وطريقة تعامله معها في مجال اكتساب المعرفة، ومجال إنتاجها، وإعادة إنتاجها" وصارت الثقافة العربية عبر هذا المفهوم لديه بمثابة "العقل العربي"، محددا أن بنيته تتفكك إلى ثلاثة عناصر معرفية: البيان والعرفان والبرهان.
غير أن الجابري نزع في مشروعه إلى قطعية معرفية مع الخطاب التقليدي اللاعقلاني، من اجل أن يؤدي إلى تأسيس فكر عربي معاصر عقلاني ديمقراطي بشرط أن ينطلق كما يرى من داخل العقل العربي بكل مكوناته من سياسية واجتماعية وتاريخية.
وان كان الجابري يُتهم بانحيازه المطلق لفكر الحداثة كونه ينتقد التراث، إلا أن هذه التهمة في تقديري غير صحيحة لأن موقفه من الحداثة هو موقف نقدي وتاريخي وعقلاني، ولذا هو يطالب بقراءة التراث قراءة نقدية على ضوء المناهج الحديثة، وعقلنة الأخلاق والعقيدة ناهيك عن السياسة التي رأى أن نهوضها لن يتحقق إلا بتحويل القبيلة إلى تنظيمات مدنية، والغنيمة إلى اقتصاد إنتاجي.
اما الخيار الثالث فهو الاتجاه نحو الاصلاح المتدرج بشرط ان يكون متوافقا عليه من قبل اطياف المجتمع وقد تناوله انور عبدالملك، والجابري في بعض طروحاته وغيرهم، ولعل ركيزة هذا المثال الذي يهدف للتغيير ترتبط بالتحالف بين تيارات مجتمعية تحديثية بما فيها الانظمة والنخب المثقفة والمؤسسة العسكرية ضد التيار الرافض للحداثة والتطوير والمعيق للتحول المجتمعي. أي بعبارة اخرى بلورة مشروع التحول من مختلف الاطياف المؤثرة عوضا عن الطبقة المتوسطة القادرة على إحداث التغيير.
صفوة القول، لدينا أزمة ثقة في قدراتنا وإمكاناتنا، وهو سبب الفارق ما بين العرب والغرب، وما تلك المشاريع الفكرية إلا لكي نراجع قصورنا قبل اتهام الغير إن أردنا فعلا المشاركة في الحضارة الكونية على اقل تقدير..
د. زهير فهد الحارثي
نقلآ عن جريدة الرياض