دعى نبي الاسلام محمد إلى شهادة ان (لاإله إلا الله) وكلمة الشهادة هي من الشهود, ولا تتحقق إلا بالمعرفة والادراك. (إن السمع والبصر والفؤاد كل اولئك كان عنه مسؤولا). وقد رفع الاسلام من مرتبة العقل وخاطبه لأنه مناص العلم والادراك والمعرفة. وجاءت الحكام الإسلامية ترجع إليه كل احكامها, لذلك قيل:
(من لا عقل له لا دين له) فلا يؤاخذ.
عمد الاسلام في القرآن إلى تبيان اهمية الإيمان القائم على القوانين والتأمل فيها والتي اسماها السشنن, وهي قوانين لا تتغيّر بتغير الزمن "سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا" الأحزاب: 23. فالسنة في القرآن هي القانون, سواء اكان قانوناً فيزيائياً "كونياً" ام قانون الأنفس البشرية او قانون المجتمع "سنن المجتمع" لذلك أورد الآية:
"سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبيّن لهم انه الحق من ربك" - فصلت-
وحث الاسلام على قيمة البحث العلمي ودراسة مبدا الأمور واصلها "قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كانت عاقبة المكذبين" - الأنعام - 6- كما حثًّ على دراسة التاريخ وتحليله فاوردَ اخبار الأمم السابقة للعبرة والدراسة والاستنباط" واهتم بدراسة النفس البشرية وعمل على السمو بها, وكرّمها ومنحها حرية الاختيار لذلك اجاز الكفر مع الإكراه وادان الإيمان مع الإكراه ولم يعتبره إيماناً. (إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان). ونهى عن التقليد والتبعية واعتبره هبوط ومسخ لانسانية الانسان, ولولا اقرب المقربين إلى المرء وهم الآباء... ادان التقليد المبني على إلغاء العقل دون التمحيص والاختيار الحرّ. فالاسلام دين مسؤولية الفرد, ومسؤولية الجماعة. فجعل من الفرد أمّة ومن الأمّة فرد: "كان ابراهيم امة",
"كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته".
فإذا كان هذا الاسلام الذي صاغ الفرد- المجتمع وتماهى فيه الحاكم والمحكوم...
فما هو الاسلام؟ وما هو الله الذي هو المركز في الدعوة إليه؟
الله في عقيدة الاسلام هو روح وعقل الكون, وإرادة عالم الوجود.
خلق الانسان الذي هو كون صغير وكرَّمه وسخَّر له الكون الكبير, وحمَّله الأمانة التي هي حرية الاختيار ومناط المسؤولية وبنى عليها تكليف الخلافة في إعمار الكون: "إني جاعل في الأرض خليفة" وجعل القانون سارياً عبر الكون من اكبر مجرّة إلى أصغر ذرة بإحكام مدهش, وفي الانسان الكون الصغير لم يخرج عن هذا الاحكام إلا في نفخة الروح التي بواسطتها حرية الاختيار وكرامة بني آدم على سائر المخلوقات: "فإذا سويّته ونفختُ فيه من روحي فقعوا له ساجدين" - الحجر- 15-
صحيح ان ابداننا تتصرف على ضوء قواعد وقوانين حتمية وثابتة لا تتغيّر, وتخضع لاعتبارات فيزيولوجية وبيولوجية, لكن هذا لايعني ان افكارنا وإرادتنا معطَّلة وعبثية وليس لنا دور في التأثير على ما يحيط بنا او يوجد في أعماقنا. فلو اعتبرنا ان السنن هي التي تعمل وتؤثر وحدَها في الكون, فهذا يعني اننا اعتبرنا الكون آلة عظيمة تعمل بلا روح ولا إرادة, بينما هو وجود حرّ عالِم ومُريد, يشعر ويفكِّر ويُقرِّر, ويستجيب ويؤثِّر.
فالانسان, وحسب التعبير القرآني العميق "كل يوم هو في شأن"
وتلك بحد ذاتها سّنة أخرى تبتني على منطق وحِكمة, وليس مجرّد حقيقة تتسق مع الواقع, بل هو اعتقاد ورؤية كونية ثابتة وشاملة تمنح الانسان عمقاً وقيمة, وتعطي لحياته هدفاً ومعنى: "أتحسب انكَ جرم صغير وفيكَ انطوى العالم الأكبر" (علي بن ابي طالب)
1) - إن غاية الاسلام هي رفع الحواجز والحجب بين الانسان وربه وإيجاد حلقة اتصال مباشر بين الطرفين, وبناءاً على ذلك:
لا نرى في الاسلام مكاناً لكيان ٍ رسمي متشكِّل من رجال الدين.
لنتمعّن في الآيات التالية:
"وإذا سألكَ عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعاني, فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي" - البقرة- 86- والآية: "ونحن اقرب إليه من حبل الوريد" - ق- 16.
اما في العبادات الجماعية التي لابدّ فيها من تصدّي شخص معيّن ليكون إماماً للجماعة, لا يُشتَرَط في ذلك الشخص أن يكون صاحب منصب رسمي, ينبغي فقط ان تتوفر فيه صفة العدالة وهي فضيلة أخلاقية عامّة وليست حكراً على طبقة معيّنة.
2) - المساواة العامّة: هي مبدأ سياسي اجتماعي سيّده الاسلام واعتبره مبدأً طبيعياً مسّلماً به.. وعمل على رفع مستواه من "المساواة الحقوقية إلى المساواة الحقيقية" بالاصطلاح الاسلامي ان المساواة ترتقي إلى مستوى الأخوّة.
أ. - فكانت فلسفة الخلق في الاسلام, الشر ينحدرون جميعاً من ابوين مشتركين وهم جميعاً اعضاء أسرة واحدة: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر ٍ وانثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم" - الحجرات - 13. كلكم من آدم وآدم من تراب... "كل انسان نظير لك في الخلق, فإنهم صنفان: إما اخ لك في الدين, أو نظير لك في الخلق" (علي بن ابي طالب).
ب. - المرأة والرجل متحدان أصلاً وجنساً "يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس ٍ واحدة وخلق منها زوجها وبثَّ منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام, إن الله كان عليكم رقيباً" - النساء - 1 -
ت. - المساواة في الحقوق نتيجة طبيعية للتساوي في الخلقة والطبيعة:
"الناس يولدون ويظلون احراراً متساوين في الحقوق" (علي بن أبي طالب). وهذه المساواة تشمل البشرية جمعاء "
أموالهم كأموالنا ودماؤهم كدمائنا" (على بن أبي طالب).
ث. - المساواة الاقتصادية: إن اموال العامة هي اموال للشعب بكامله. الناس شركاء في ثلاثة, الماء والكلأ والنار, (محمد) ص
ج. - الحرية السياسية: "لاتكن عبداً لغيركَ, وقد جعلك الله حرّأً"
"وليكن امر الناس عندك في الحق سواء" (علي بن ابي طالب)
لاحظ (امر الناس) وليس امر المسلمين.
كذلك خطبة الخليفة الأول بعد انتخابه خليفة وحاكماً سياسياً (يا أيها الناس قد وُليتُ عليكم ولستُ بخيركم, ولقد وددتُ ان واحداً منكم قد كفاني هذا المر فلو وجدتم فيَّ اعوجاجاً فقوِّموه).
ح. - الحرية الدينية: كان الرسول يوصي اصحابَه بعدم فرض الدين على الناس فرضاً لن الله تعالى يقول: "إنكَ لا تهدي من أحببت ولكن الله يهذي من يشاء" - القصص - 52- "لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغيّ" - البقرة- 256 - وبالنسبة لاتباع الديانات الخرى, يصدر الاسلام حكمه بحقهم على النحو التالي: "إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى من ىمن بالله واليوم الآخر وعمل عملاً صالحاً فلهم اجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون" - البقرة - 62 - "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي احسن" - العنكبوت - 46 - "لكل امة جعلنا منسكاً هم ناسكوه" - الحج - 67 -
3)
- الشورى في الحكومة: ثمة آيتان قرآنيتان تعلنان صراحة عن مبدأ الشورى في الأمور. الأولى "وشاورهم في الأمر" - آل عمران - 159 -
والثانية "وامرهم شورى بينهم" - الشورى - 38 -
إن احد المباديء والأركان السياسية والاجتماعية في الإسلام هو الاجتماع
(أي اتفاق اكثر الآراء على أمر) والذي يُعد اليوم الاسلوب الوحيد الذي يحظى بفبول الجميع لتحقيق الديمقراطية.
4) - السعادة والشقاء مرهونان باعمال الانسان وصفاته الذاتية. "كل نفس بما كسبت رهينة" - المدثر - 38 - "ليس للانسان إلا ما سعى, وان سعيه سوف يُرى" - النجم - 39, 40 - "فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره" - الزلزال - 7,8 -
5) - العقل والعلم ... "اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الانسان من علق, اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الانسان ما لم يعلم" - العلق - 1,5 - اول صفة اطلقت على الله في القرآن (الرب) التي تفيد التربية, واول عمل خلق الانسان على اطوار الخلقة (العلق) ويتكرر التعبير بالرب متبوعاً بصفة ثانية هي الكرم وذلك أنه علم الانسان بالقلم علمه ما لم يعلم.. والقرآن يؤكد هذه الأفضلية (العلم والقلم) على سبيل الاستفهام الانكاري في قوله: "هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون" إن قيمة العقل جوهرية في الاسلام لنه محل العلم والمعرفة والادراك. (لا دين لمن لا عقل له) محمد. كذلك حظر علماء المسلمين التقليد في المسائل العقلية والمباديء العقائدية للدين أفتوا بعدم إيمان المقلد كما نوهنا سابقاً, يقول القرآن "ولا تقف ما ليس لك به علم" - الإسراء -
- 36 - و "قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين" - النمل - 64 -
6) - الانسجام بين الدين والدنيا: الدنيا والاخرة في الاسلام ليستا متعارضتين بل هما مكملتان لبعضهما لا تتدافعان بل تدفعان معاً باتجاه تكامل الانسان (الدنيا مزرعة الآخرة) و (من لا معاش له لا معاد له) وفي القرآن: "ولا تنسى نصيبكَ من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليكَ"- القصص - 77 - واللافت للنظر جداً في القرآن حيثما يتعرّض لذكر الدنيا والآخرة يفدِّم الأولى على الثانية ويدعم ذلك الحديث النبوي: "اللهم بارك لنا في الخبز فإنه لولاه ما صمنا ولا صلينا ولا اقمنا حدود ربنا" وفي القرآن "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حينة" - البقرة - 201 -
يتطلع المسلم دائماً إلى تحصيل السعادة ببعديها المادي والمعنوي. ويسعى الاسلام لأن يصنع من البشر عرفاء ناشطين وزهاداً فاعلين, وسياسيين اتقياء, وعاكفين اجتماعيين, وعباداً متفاعلين مع الناس ومعنويين ماديين وماديين معنويين.
عن المر بالمعروف والنهي عن المنكر مسؤولية غلزامية على كل فرد مسلم وهما تحمِّلان كل فرد مسؤولية العمل على إقرار العدل وتحقيق السعادة والكمال الانسانيين. عن بذل المساعي الاجتماعية لإصلاح شان الآخرين والتهوض بمستوى المجتمع ككل يُعدّ وظيفة يومية تناط بعهدة كل مسلم.
7) - الانسان جار ٍ على سنة لا تتبدّل: حينما تقول (الانسان), فالمراد هنا الانسان بمعنى الفرد والانسان بمعنى الجماعة والتاريخ يخضع لسلسلة قوانين محددة تأبى التبدل والتغيير. لذلك لن يكون بوسع المعجزة أو الصدفة او النبوغ الطارىء او يغيّر مجرى التاريخ أو يحدث انعطافة حادّة في مسار المجتمع, لأن التاريخ والمجتمع
يجريان على ضوء سنن ثابتة لا تتغيّر ولا تتبدّل.
الخطاب في الاسلام موجّه دائماً إلى الناس, ومع ذلك يعلم أنه يعتبر (الناس) أساس المجتمع ومبدأ وجوده, وهو غالباً ما يدين الرموز التاريخية ويعبِّر عنها عادة بالملأ, وقلما يذكر هؤلاء بخير, لنرى الآية "وقالوا ربنا اننا اطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل" ... - الأحزاب - 67 - إنها تحث على نبذ عبادة الشخصية وتقديس الرموز والأبطال, داعية إلى التركيز على السنن الداخلية للمجتمع ومحاولة كشفها, إذ ان المجتمعات البشرية لها سنن ونواميس لا تؤثر فيها بطولات البطال فالتاريخ ليس خشبة مسرح يمثل البعض فيها ادوارهم. غنه حقيقة موضوعية وشيء موجود في الخارج وفي الطبيعة ويخضع لقوانين محددة وقطعية ومسلم يها, ولا يسع أي مجتمع كان الهروب من قبضته مثلما هو الأمر بالنسبة إلى قانون الموت والحياة في سائر الكائنات الحيّة.
في صميم كل مجتمع قوانين لا بدّ من كشفها اولاً. ولا بد ثانياً من تنظيم حياتنا على ضوئها لكي نتعاطى معها على اكمل وجه "سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا" فالناس هم الذين يحددون مسار التاريخ على أساس ما هو موجود في صميم الانسان والمجتمع من سنن وقوانين وليس هناك تغيير وتحوّل اجتماعي إلا وهو منوط بإرادة الناس ونزعاتهم ويشكل نتيجة طبيعية لسلوكهم وسيرتهم العامة التي تسير بموجب سنن معيّنة لا تتبدل. ولكل واحدة من تلك السير والنزعات والإرادات نتائج وآثار قطعية على الصعيد التاريخي او الاجتماعي وذلك عبر المعادلة التالية: الناس + السنة = بناء المجتمع وحركة التاريخ. "تلك امة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسالون عما كانوا يعملون" - البقرة - 134-
"إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بانفسهم" - الوعد - 11.
هذا على مستوى المجتمع ككل. ان التغير والتحوّل الاجتماعي ليس معلولاً للمشيئة الإلهية بل هو معلولاً للتحولات الأخلاقية والروحية التي تمر بها المجتمعات, والمشيئة الإلهية هي التي اقتضت هذا النحو من الارتباط الذي هو بدوره سنة من السنن. وثمة قضية اخرى تتضمنها الاية اعلاه, ألا وهي دور العامل السيكولوجي في المجتمع والتاريخ. وهذا بدوره مبدأ في غاية الهمية لنه يجعل علم النفس محوراً رئيسياً لكثير من العلوم الانسانية الخرى, كما هو واضح في علم النفس الاجتماعي والأممي.
تتمة الكزبري
8) اهتمام الإنسان بنظام الطبيعة وأسراره..
القرآن يدعو إلى التفكير بالمادة، وينهي عن التفكير بالروح أو ذات الإله.. تأمل في المأكل والمشرب والحاجات الاجتماعية (فانظر إلى طعامك وشرابك).. اهبط من بروجك العالية وأنزل علمك من مستوى السماء إلى مستوى الأرض يقول الله في القرآن:فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين. النحل: الآية 36. سيحوا في الأرض وتعرّفوا على القبائل والشعوب وعاداتها وتقاليدها وعواقب أمورها، بطريقة حسية تجريبية. لقد حرص الإسلام على عرض الحقائق الجزئية على الناس وحثهم على التفكر بها، والتركيز على آثار هذه الحقائق ودراسة خصائصها.
9) الإقرار بوجود الغرائز والميول الإنسانية..
إن القرآن يعبّر عن المال والثروة بالخير قل من حرّم زينة الله التي أخرجها لعباده والطيبات من الرزق الأعراف: الآية 32. وهذا يعكس اهتمام القرآن بالمتطلبات المادية لحياة الإنسان والاعتراف بميوله وغرائزه الطبيعية. وفي ضوء ذلك نفهم فلسفة تشريع القصاص، والتمرد على الظالمين.
10) الاعتراف بحقوق الشعوب والأديان الأخرى..
لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يُحبُّ المقسطين الممتحنة: الآية 8.
تمنعوا في مفاد الآية، إنها تريد إقرار مبدأ المواطنة والتعايش السلمي بين مختلف أفراد المجتمع، ولنصِغ إلى كلام (كيه موليه) عضو الحزب الاشتراكي الفرنسي الذي قتل في أزمة الشمال الأفريقي: (كان لليهود في البلدان الإسلامية نفوذ ونشاط حياتي طبيعي، ولم يشعروا أبداً بأنهم أقلية، رغم أنهم كانوا كذلك في الواقع، ولذلك لم يجدوا حاجة على التمركز في نقطة واحدة والتحول إلى حركة عنصرية دينية ولم يفكروا بتشكيل دولة أو منظمة على أساس العرق والدين داخل المجتمعات الإسلامية، وذلك أنهم كانوا يزاولون نشاطهم المعاشي بحرية ويتمتعون بالحقوق والمزايا التي يتمتع بها غيرهم). نقلاً عن المفكر الجزائري عمر اوزكان في كتابه أفضل الجهاد.
ولم تظهر الصهيونية إلا بعد رواج الحركات العنصرية في أوروبا، والتي كانت تحتقر اليهود وتمتهنهم، ما أدى بالتالي إلى بروز مطالبات بإنشاء وطن قومي لليهود.
11) الإقرار بناموس التكامل..
يعتقد كثيرون أن نظريات التطور تتعارض مع الدين والواقع أن هذه النظريات لا تتعارض مع الدين بل مع المتدينين وخلقناكم أطواراً، وهذا على مجال المادة كذلك من الناحية المعنوية، القرآن مثلاً بحث النبي على تكرار الدعاء التالي (وقل رب زدني علماً)، ويفهم من ذلك أن قانون التطور المعنوي صادق حتى في حق النبي، فهو في حالة تكامل وتطور، وهو أعظم نعمة يطلبها النبي من ربه، ومن هنا يتجلى عمق مقولة علي ابن أبي طالب (من تساوى يوماه فهو مغبون).
12) الدين جاء لتأمين مصالح الإنسان لا لاستغلاله وإذلاله..
هناك مصطلحات مرادفة لـ(الإسلام) وأحد (الشريعة) وتعني في اللغة (الطريق إلى الماء). فالدين إذن وسيلة لا هدف. إن من لا هدف له يعتبر طريقه. أما الذي يمتلك هدفاً فلا يعد الطريق إلا وسيلة لبلوغ الهدف، وعليه فالدين في الإسلام وسيلة، وأما الهدف فشيء آخر، غير أن عموم المتدينين. تتوهم أن الدين هو الهدف. وهذان المنهجان في التفكير في غاية التفاوت والاختلاف الشخصي الذي يقصر همه على الوسيلة لن يكون قادراً على بلوغ الهدف. أما الثاني فيستفيد من الوسيلة على أحسن وجه.
يقول الشاعر مولوي: [كان حرباً بك أن تذهب إلى مكة لكنك التصقت بمركبك في منتصف الطريق، لقد مهدّوا لك هذا المركب لكي يوصلك إلى مكة حيث الهدف، لكنك نسيت أنك قاصد مكة وشغلت نفسك بالتفكير بمزايا المركب وخصائصه زاعماً أن هذه الأمور هي فقه الدين فضيقت عمرك فيها، وحيل بينك وبين الوصول إلى الهدف]. صفوة القول أن ثمة منهجين في فهم الدين ففي الإسلام يعدّ الدين وسيلة وكثير من المتدينين يتحد الدين مع الهدف. فلكل عبادة وحكم شريعي مقاصد خاصة بها، مثلاً الصلاة: إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر العنكبوت: الآية 45. ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم المائدة: الآية 6. ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من أمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وأتى المال على حُبّه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وأتى الزكاة والموفون لعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون البقرة: الآية 177. أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر، وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القومَ الظالمين التوبة: الآية 19.
نعم هذه كلها وسائل، والهدف شيء آخر إذا غفل عنه أفرغ الدين من محتواه.
13) حرية التعبير..
ماذا تعني مقولة (الطرق إلى الله بعدد نفوس الخلائق)؟ أليست تعني عدم احتكار حق التفسير والتعبير عن الرأي بل من حق أي إنسان أن يختار طريقه إلى ربه دون أن يدان على ذلك، وللنبي في هذا السياق مقولة رائعة يقول فيها: (إن في اختلاف أمتي رحمة)، وطبعاً هو يعني هنا الاختلافات الفكرية إذ الأمة التي تفكر على نمط واحد أمه ميتة، لأنها في الحقيقة لا تفكر.
التفكير على نمط واحد بمنزلة عدم التفكير، إذ الأفكار لا يمكن صياغتها في قالب واحد إلا في حالات الكتب والاختناق. من أين تأتي الرحمة في الاختلاف؟ من تلاطم الأفكار وتصادمها الحرّ، فهذا التصادم هو الذي ينتج الفكرة الجديدة فتتلاقح الأفكار وتتكامل.. إن ميدان الفكر هو الحقل الذي كان الأنبياء ينشطون في العمل فيه، وكان أساس عملهم هواية الناس ومنحهم العذرة على تشخيص ما يضرّهم مما ينفعهم. كأن الرسول (ص) يقول للفرد المسلم: إنك تخرجت من دورة تربوية اكتسبت خلالها شعوراً ووعياً يمكنك من الآن فصاعداً من تأمين السعادة والسلام والأمن والكمال، لقد ترك الوحي مكانه للعقل، ولكن أي عقل؟!.. إنه العقل الذي ترعرع على مدى قرون في كنف الوحي ومدرسة الأنبياء.
24) التوحيد..
إن عقيدة التوحيد ليست وليدة الدين الإسلامي إذ القرآن يصرح بأن الهدف من بعثة الأنبياء هو الترويج لمبدأ التوحيد الذي هو أساس الحياة الفردية والاجتماعية مادية ومعنوية، وبعبارة أخرى أنه الوجه المشترك في جميع أنحاء الحياة الإنسانية من أفكار وأفعال ومشاعر على اختلاف أشكالها فالنشاطات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية، وكذلك العلاقات الفردية والاجتماعية من صداقة وعداوة، يجب أن تنظم جميعاً بحيث تكون مستندة إلى التوحيد كمنطلق وأساس. وبالتالي يكون لها مسارات مشتركة ومضامين جامعة ووجهة واحدة، هي التوحيد.
أنا أتصور أن كل المعاصي والمفاسد والجرائم، والانحرافات بل وجميع مظاهر التخلف والانحطاط ناجم عن عوامل ثلاث هي الجهل والخوف والطمع. التوحيد يحبط مفعول هذه العوامل الثلاثة، ويعطل تأثيرها في نفس الإنسان الموّحد وذلك عبر اجتثاث جذورها النفسية من أعماق روحه. فالجهل الذي أعنيه ليس نقيض العلم المتعارف عليه، وإما الجهل المحسوب سبباً من أسباب الفساد والانحطاط وهو مقابل الحكمة التي هي الوعي الإنساني الأخلاقي لدى الفرد، ويقظة الضمير، والذي فيها نجدت البشرية وكمال الإنسان. لأن حياة الإنسان وسيرته فيها، تتأثراً مباشراً بنمط تفكيره واعتقاده، وبرؤيته الكونية.
كذلك الخوف والنفعية، يمكن أن نفهم كيف يقتل التوحيد جذورها في روح الإنسان، إن الخوف والطمع هما الأساس لكل مظاهر البخل والاحتكار وجرائم الرأسمالية التي تقاسي منها الإنسانية جمعاء، وظواهر الاستعمار استغلال جهود الناس، ونهب ثروات الشعوب، وغير ذلك من الأعمال التي من شأنها أن تودي بالمجتمعات وتحجب الفرد عن مواصلة سيرته في التكامل المعنوي، وتقوده نحو هاوية الانحطاط.
الموّحد إنسان حرّ، شجاع ومستقل، لذلك ليس جزافاً أن يبتدئ نبي الإسلام نهضته ورسالته برفع شعار التوحيد: قولوا لا إله إلا الله تفلحوا إن (تفلحوا) هذه ليست مجرد اصطلاح ديني شائع، وليس المقصود هنا فحسب أن المعتقد بهذا المبدأ التوحيد سيكون في الآخرة من الناجين والمفلحين في محكمة القيامة (أن تفلحوا) هذه دائرة أوسع من حيث المعنى، الكلام هنا يحوم حول موضوع نجاة الإنسان وتحرره من كل القيود والمعوقات في الدنيا قبل الآخرة. تحرره من كل ما يقيد حريته، ويبدد آماله، ما الذي يقيد حرية الإنسان، ويسحق آماله غير الخوف والطمع وإتباع الشهوات والظلم والاستعباد، والتحجرّ، والجمود، والكذب والخداع وتقديم المصالح على القيم والمبادئ.
التوحيد هو كل الإسلام، فقد ربط الشعار ربطاً متيناً بين التوحيد والفلاح (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا) كل من آمن بهذا الشعار واعتقد به ومات عليه، فهو من المفلحين قل هذه سبيلي ادعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني يوسف: الآية 108. القضية الأخرى اللازمة لمعرفة حدود دائرة التوحيد الإسلامي. هي دراسة عوامل الشرك، الذي هو ضد التوحيد وأهمها أن يعتقد المرء أن شخصاً أو شيئاً يؤثر في سعادة الحياة وشقائها، فيخشاه أو يتأمل منه، فلو بالفنا بالثناء على عالم الدين ومنحناه قيمة بالأصالة بحيث ننقاد لكل ما يقوله، وننفذ كل أوامره بدون تفكير نكون قد زاولنا نمطاً من الشرك، أطلق عليه اسم (الصنمية الدينية وهو ما يشير إليه القرآن اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله التوبة: الآية 31. كل من يجعل نفسه آله لتنفيذ مأرب وأوامر غيره فهو مشرك، إذا لم يكن ذلك لأجل الحق، فالانقياد لا يجوز إلا له (لله الأمر، لله الحكم) نكون مشركين إذا ساومنا على حريتنا، أو اعتقدنا بأننا ملك لأحد.
إن عبادة الأهواء نوع من الصنمية أيضاً، لو اعتمد إنسان على الثروة وظن أنها الحل الوحيد لمشكلاته كافة وعمل على تحصيلها بغير وجه حق فهو مشرك. إن كل سلطان مهما تسمى وتحلى من صفات إذا سعى لتحكم إرادته وفرضها على الناس لهذا الاعتبار، فهو بمنزلة من يدعي الإلوهية، وكل من يوافقه ويطاوعه في ذلك فهو بمنزلة المشرك.
فمثلاً فرعون خاطب قومه بالقول: أنا ربكم الأعلى، والرب هنا ليس بمعنى الخالق، بل بمعنى السيّد والمالك والمربي، فحوى كلامه أنه هو صاحب القرار، وله أن يفعل بهم ما يشاء، ويوجههم حيث يريد هو لا حيث ما يريد الله أو هم يريدون فهم رعايا عبيد ليس إلا ذلك هو الاستبداد السياسي الذي حاربه الإسلام.
كذلك الاستبداد الديني الذي يتمثل بمؤسسة أو فردها فإن نموذجاً أو الاستبداد الاقتصادي الذي يتمثل بقارون. إن هؤلاء المتسلطين الثلاثة جاء الإسلام ليحاربهم ويدعو على الحرية والانعتاق من رقاب عبوديتهم بالتوحيد الذي يقف في وجه أي اغتصاب لكرامة الإنسان وحريته فالسلطة في المجتمع الإسلامي مدنية والحاكم الأعلى هو مدير البلاد بالسياسية الخارجية والداخلية، ومن خلال المؤسسات يمكن أن توضع قوانين مدنية، تجاور أحكام الشريعة الإسلامية ومقاصدها السامية.